كيف نعلّم أطفالنا حب القراءة والمطالعة

تُعدّ القراءة واحدة من أهم الأدوات التربوية والثقافية التي تُساهم في بناء شخصية الطفل وتنمية مهاراته الفكرية والاجتماعية واللغوية. ولا يمكن الحديث عن تطوّر المجتمعات بمعزل عن أجيال قارئة ومثقفة، تمتلك القدرة على النقد والتحليل والفهم. ولذلك، فإن غرس حب القراءة في نفس الطفل منذ سنواته الأولى يُعتبر من المهام الجوهرية التي تقع على عاتق الأسرة، ثم المدرسة، فالمجتمع بأكمله. إن تعليم الأطفال حب المطالعة لا يعني فقط توفير الكتب لهم، بل هو عملية مركّبة تتطلب بيئة محفّزة، وممارسات منهجية، وسلوكًا تربويًا مستمرًا يقوم على القدوة، والتحفيز، والإبداع.

أهمية القراءة في مرحلة الطفولة

في مرحلة الطفولة تتشكل البنية الأساسية لعقل الطفل، وهي الفترة التي يكون فيها الدماغ في ذروة استعداده لاستقبال المعلومات وتخزينها، وتكون القدرات اللغوية والمعرفية في طور التشكل والنمو. إن الطفل القارئ يمتلك مفردات أكثر، ومهارات تواصل أوسع، وخيالًا خصبًا يساعده على حل المشكلات وتكوين آراء نقدية. إضافة إلى ذلك، فالقراءة تعزز من قدرة الطفل على التركيز والصبر والانضباط، وتوسع أفقه الفكري والاجتماعي. هي جسر للمعرفة، وأداة لفهم الذات والآخر، ومفتاح لكل تعلم لاحق.

مسؤولية الأسرة في غرس حب المطالعة

تبدأ رحلة الطفل مع القراءة من أحضان أسرته. فهي البيئة الأولى التي يكتشف من خلالها اللغة والمعرفة، وتكتسب أهمية خاصة في بناء العلاقة الأولى بين الطفل والكتاب. تلعب الأسرة دورًا جوهريًا في ترسيخ مفهوم القراءة كفعل يومي ممتع وليس كواجب مدرسي مفروض.

• القدوة الإيجابية: الطفل بطبعه مقلِّد. فإذا رأى والديه يقرؤون بانتظام، ويمتلكون مكتبة منزلية صغيرة، ويتحدثون عن الكتب والمطالعات، فإنه سينظر إلى القراءة كفعل طبيعي وجذاب.

• القراءة التشاركية: يجب أن يُخصص الوالدان وقتًا منتظمًا لقراءة القصص لأطفالهم، خاصة قبل النوم، وهو وقت مثالي لبناء ارتباط عاطفي بين الطفل والكتاب.

• توفير بيئة مناسبة: تخصيص ركن للقراءة داخل المنزل يُعد محفزًا فعّالًا، ولو كان بسيطًا. هذا الركن يجب أن يحتوي على كتب مناسبة لعمر الطفل، ملونة، ذات رسومات جذابة، ومواضيع قريبة من اهتماماته.

• التحفيز والتشجيع: يجب الاحتفاء بأي سلوك متعلق بالقراءة لدى الطفل، سواء كان اختيارًا لكتاب، أو محاولة لقراءة كلمة أو جملة. التشجيع اللفظي والمادي يعزز من ثقته بنفسه.

دور المدرسة في دعم حب القراءة

لا تكتمل جهود الأسرة دون شراكة حقيقية مع المؤسسات التربوية، وعلى رأسها المدرسة، التي تُعد من البيئات الأساسية لتطوير مهارات القراءة عند الأطفال.

• إنشاء مكتبات مدرسية فعّالة: يجب أن تحتوي المكتبة المدرسية على مجموعة واسعة من الكتب المناسبة لمختلف الفئات العمرية، وتُتاح بشكل منتظم للطلبة.

• برامج المطالعة الحرة: ينبغي دمج حصص مخصصة للمطالعة الحرة ضمن الجدول الدراسي، بعيدًا عن ضغوط الواجبات والامتحانات، بهدف تعزيز العلاقة الطوعية بين الطفل والكتاب.

• أنشطة قرائية محفّزة: مثل “نادي القراءة”، أو “أسبوع الكتاب”، أو “مسابقات القصة القصيرة”، والتي تتيح للأطفال التفاعل مع الكتاب بطريقة ممتعة وتنافسية.

• دور المعلم النموذجي: كما أن الأسرة تقدم القدوة، فإن المعلم أيضًا يُعد نموذجًا أساسيًا يُحتذى به. فإذا كان المعلم قارئًا محبًا للكتب، سينقل شغفه لطلبته بطبيعة الحال.

أهمية اختيار الكتب المناسبة لعمر الطفل

من العوامل الجوهرية التي تؤثر على حب الطفل للقراءة هو مدى ملاءمة الكتاب لمستوى نموه العقلي واللغوي والعاطفي. إذ أن تقديم كتب معقدة لطفل صغير قد يُشعره بالإحباط والنفور من القراءة. لذلك، يجب مراعاة العناصر التالية عند اختيار الكتب:

اختيار الكتاب المناسب يُساهم بشكل كبير في تعزيز تجربة القراءة، ويجعل الطفل أكثر استعدادًا لخوض عوالم جديدة دون ملل أو صعوبة.

تقنيات حديثة لتعزيز حب المطالعة

في ظل الثورة الرقمية والتقنية، لا يمكن تجاهل دور الوسائط الجديدة في تشجيع القراءة لدى الأطفال. ورغم أن الشاشات قد تكون في أحيان كثيرة مصدر إلهاء، إلا أنه يمكن استغلالها بذكاء لخدمة هدف المطالعة.

• الكتب الإلكترونية: منصات رقمية توفر كتبًا تفاعلية برسوم متحركة وأصوات تساعد على شد انتباه الطفل، خاصة في المراحل الأولى من الطفولة.

• تطبيقات قصصية: تطبيقات للهاتف المحمول تحتوي على مكتبات ضخمة من القصص المصورة والمقروءة، يمكن التحكم في مستواها حسب عمر الطفل.

• الأفلام والرسوم المتحركة المبنية على كتب: مشاهدة فيلم مبني على كتاب ثم قراءة الكتاب نفسه، أو العكس، تُعد تجربة ثرية تحفّز خيال الطفل وتُغنيه لغويًا.

• الاستماع للكتب الصوتية: تُعد وسيلة فعالة لتنمية مهارات الاستماع واللغة، خاصة في حالات السفر أو الاسترخاء.

دور اللغة في ترسيخ حب القراءة

اللغة عنصر أساسي في تكوين علاقة الطفل بالقراءة. فالطفل الذي ينشأ في بيئة غنية لغويًا، حيث يتم التحدث معه بجمل كاملة، والاستماع له، وقراءة القصص له، سيكتسب حبًا تلقائيًا للغة والقراءة.

• توسيع المفردات: القراءة المتكررة لقصص متنوعة تُغني رصيد الطفل اللغوي.

• ربط اللغة بالواقع: استخدام مفردات من الكتب في الحديث اليومي يُرسّخها في ذهن الطفل ويشعره بأنها مفيدة.

• تشجيع الكتابة والتعبير: كتابة يوميات بسيطة، أو تلخيص ما قرأه الطفل بلغته الخاصة، تدعمه لغويًا وتحفّز مهاراته التعبيرية.

العوامل النفسية والتربوية المؤثرة

يتأثر الطفل في علاقته بالقراءة بعوامل نفسية متعددة. وقد يؤدي الضغط أو التوبيخ أو المقارنة بأقرانه إلى نتائج عكسية.

• الابتعاد عن الإجبار: القراءة يجب أن تكون فعلًا اختياريًا نابعًا من شغف، وليس واجبًا مفروضًا.

• تجنب النقد السلبي: إذا أخطأ الطفل في القراءة أو الفهم، يجب دعمه وتشجيعه بلطف لا انتقاده بقسوة.

• تحفيز روح الاكتشاف: عرض الكتب كوسيلة لاستكشاف عوالم جديدة، وليس فقط كمصدر للمعلومة.

• منح الحرية في الاختيار: السماح للطفل باختيار الكتب التي يرغب بقراءتها يعزز من حس المسؤولية والاستقلالية.

القراءة كأداة لبناء القيم

الكتب ليست فقط مصادر للمعرفة، بل أيضًا وسائط فعّالة لنقل القيم الإنسانية والدينية والاجتماعية. من خلال القصص، يتعرّف الطفل على مفاهيم كالصدق، الأمانة، الشجاعة، التعاون، الإحسان، والعدل.

• قصص الأنبياء: تُعد مصدرًا تربويًا عظيمًا لغرس القيم الإسلامية بطريقة مبسطة.

• القصص العالمية: تحتوي على عبر إنسانية عميقة يمكن توظيفها لشرح مفاهيم الخير والشر.

• رواية المواقف الأخلاقية: الطفل يتفاعل أكثر مع القصص التي تعرض مواقف حياتية قريبة منه، مما يجعله يتأثر ويقلد.

استمرار الرعاية والمتابعة

حب المطالعة ليس هدفًا يمكن تحقيقه في يوم أو أسبوع، بل هو مسار طويل يتطلب صبرًا واستمرارية. قد تمر فترات يفتر فيها اهتمام الطفل بالقراءة، وهنا تظهر أهمية المتابعة الرصينة دون فرض. من المفيد تغيير أنواع الكتب، أو تقديم مؤلفين جدد، أو ربط الكتب بالأحداث الجارية في حياة الطفل، كالسفر، أو المدرسة، أو المناسبات الدينية.

كما أن تشجيع الطفل على كتابة مراجعات بسيطة للكتب، أو إعداد عروض تقديمية، أو تلخيص القصص بلغة مرحة، يُسهم في ترسيخ عادة القراءة كجزء من هويته الشخصية.

خاتمة

تعليم الأطفال حب القراءة والمطالعة ليس رفاهية ثقافية، بل ضرورة تربوية ومجتمعية تُمهد لمستقبل أكثر وعيًا واستنارة. إن الاستثمار في تربية جيل قارئ هو في حقيقته استثمار في عقول الأوطان ومستقبلها، وهو الطريق الأضمن لنقل المعرفة وتثبيت القيم، وتحقيق النهضة الفكرية والمجتمعية. ولذلك فإن بناء علاقة صحية وممتعة بين الطفل والكتاب هو واجب كل بيت ومدرسة ومؤسسة، وهو مسؤولية جماعية لا تكتمل إلا بتعاون الجميع.

المراجع

1. سوسن مهنا، “أدب الطفل وتنمية عادة القراءة”، دار الفكر، دمشق، 2012.

2. نوال أبو الهيجاء، “التربية من خلال القصة”، دار المنهل، عمّان، 2005.